فصل: فصــل في كلمات الله تعالى

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ فصــل

ومما يجب أن يعلم أن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الإنس والجن، فلم يبق إنسي ولا جني إلا وجب عليه الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واتباعه، فعليه أن يصدقه فيما أخبر، ويطيعه فيما أمر، ومن قامت عليه الحجة برسالته فلم يؤمن به فهو كافر، سواء كان إنسيًا أو جنيًا‏.‏

ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الثقلين باتفاق المسلمين وقد استمعت الجن القرآن وولوا إلى قومهم منذرين لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه ببطن نخلة لما رجع من الطائف، وأخبره الله بذلك في القرآن بقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ‏}‏‏[‏الأحقاف‏:‏29‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وأنزل الله تعالى بعد ذلك‏:‏ ‏{‏قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏1-6‏]‏ أي السفيه منا في أظهر قولي العلماء‏.‏

وقال غير واحد من السلف‏:‏ كان الرجل من الإنس إذا نزل بالوادي قال‏:‏ أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فلما استغاثت الإنس بالجن ازدادت الجن طغيانًا وكفرًا كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏6، 8‏]‏ وكانت الشياطين ترمي بالشهب قبل أن ينزل القرآن، لكن كانوا أحيانا يسترقون السمع قبل أن يصل الشهاب إلى أحدهم، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ملئت السماء حرسًا شديدًا وشهبًا، وصارت الشهب مرصدة لهم قبل أن يسمعوا، كما قالوا‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏9‏]‏، /وقال تعالى في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏210-212‏]‏، قالوا‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏10، 11‏]‏، أي على مذاهب شتى، كما قال العلماء‏:‏ منهم المسلم والمشرك والنصراني والسني والبدعي ‏{‏وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏12‏]‏، أخبروا أنهم لا يعجزونه‏:‏لا إن أقاموا في الأرض ولا إن هربوا منه ‏{‏وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا‏}‏‏[‏الجن‏:‏13، 14‏]‏أي الظالمون، يقال‏:‏أقسط إذا عدل، وقسط إذا جار وظلم، ‏{‏وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏14ـ22‏]‏، أي ملجأ ومعاذًا، ‏{‏إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏23، 24‏]‏‏.‏

/ثم لما سمعت الجن القرآن أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به وهم جن نصيبين، كما ثبت ذلك في الصحيح من حديث ابن مسعود، وروى أنه قرأ عليهم سورة الرحمن، وكان إذا قال‏:‏ ‏{‏فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏13‏]‏ قالوا‏:‏ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب، فلك الحمد‏.‏

ولما اجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم سألوه الزاد لهم ولدوابهم فقال‏:‏‏(‏لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحمًا، وكل بعرة علفًا لدوابكم‏)‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد لإخوانكم من الجن‏)‏ وهذا النهي ثابت عنه من وجوه متعددة، وبذلك احتج العلماء على النهي عن الاستنجاء بذلك، وقالوا‏:‏ فإذا منع من الاستنجاء بما للجن ولدوابهم فما أعد للإنس ولدوابهم من الطعام والعلف أولى وأحرى‏.‏

ومحمد صلى الله عليه وسلم أرسل إلى جميع الإنس والجن، وهذا أعظم قدرًا عند الله تعالى من كون الجن سخروا لسليمان عليه السلام، فإنهم سخروا له يتصرف فيهم بحكم الملك، ومحمد صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم يأمرهم بما أمر الله به ورسوله، لأنه عبد الله ورسوله، ومنزلة العبد الرسول فوق منزلة النبي الملك‏.‏

وكفار الجن يدخلون النار بالنص والإجماع، وأما مؤمنوهم فجمهور/العلماء على أنهم يدخلون الجنة، وجمهور العلماء على أن الرسل من الإنس ولم يبعث من الجن رسول‏.‏ لكن منهم النذر، وهذه المسائل لبسطها موضع آخر‏.‏

والمقصود هنا أن الجن مع الإنس على أحوال‏:‏

فمن كان من الإنس يأمر الجن بما أمر الله به ورسوله من عبادة الله وحده وطاعة نبيه، ويأمر الإنس بذلك، فهذا من أفضل أولياء الله تعالى، وهو في ذلك من خلفاء الرسول ونوابه‏.‏

ومن كان يستعمل الجن في أمور مباحة له فهو كمن استعمل الإنس في أمور مباحة له، وهذا كأن يأمرهم بما يجب عليهم وينهاهم عما حرم عليهم، ويستعملهم في مباحات له، فيكون بمنزلة الملوك الذين يفعلون مثل ذلك، وهذا إذا قدر أنه من أولياء الله تعالى فغايته أن يكون في عموم أولياء الله مثل النبي الملك مع العبد الرسول‏:‏ كسليمان ويوسف مع إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين‏.‏

ومن كان يستعمل الجن فيما ينهى الله عنه ورسوله إما في الشرك وإما في قتل معصوم الدم أو في العدوان عليهم بغير القتل، كتمريضه /وإنسائه العلم وغير ذلك من الظلم، وإما في فاحشة كجلب من يطلب منه الفاحشة، فهذا قد استعان بهم على الإثم والعدوان، ثم إن استعان بهم على الكفر فهو كافر، وإن استعان بهم على المعاصي فهو عاص‏:‏ إما فاسق وإما مذنب غير فاسق، وإن لم يكن تام العلم بالشريعة فاستعان بهم فيما يظن أنه من الكرامات‏:‏مثل أن يستعين بهم على الحج، أو أن يطيروا به عند السماع البدعي، أو أن يحملوه إلى عرفات ولا يحج الحج الشرعي الذي أمره الله به ورسوله، وأن يحملوه من مدينة إلى مدينة، ونحو ذلك فهذا مغرور قد مكروا به‏.‏

وكثير من هؤلاء قد لا يعرف أن ذلك من الجن، بل قد سمع أن أولياء الله لهم كرامات وخوارق للعادات، وليس عنده من حقائق الإيمان ومعرفة القرآن ما يفرق به بين الكرامات الرحمانية وبين التلبيسات الشيطانية، فيمكرون به بحسب اعتقاده، فإن كان مشركًا يعبد الكواكب والأوثان أوهموه أنه ينتفع بتلك العبادة، ويكون قصده الاستشفاع والتوسل ممن صور ذلك الصنم على صورته من ملك أو نبي أو شيخ صالح، فيظن أنه صالح، وتكون عبادته في الحقيقة للشيطان، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏40، 41‏]‏ ‏.‏

/ولهذا كان الذين يسجدون للشمس والقمر والكواكب يقصدون السجود لها فيقارنها الشيطان عند سجودهم ليكون سجودهم له، ولهذا يتمثل الشيطان بصورة من يستغيث به المشركون‏.‏ فإن كان نصرانيًا واستغاث بجرجس أو غيره، جاء الشيطان في صورة جرجس أو من يستغيث به، وإن كان منتسبًا إلى الإسلام واستغاث بشيخ يحسن الظن به من شيوخ المسلمين جاء في صورة ذلك الشيخ، وإن كان من مشركي الهند جاء في صورة من يعظمه ذلك المشرك‏.‏

ثم إن الشيخ المستغاث به إن كان ممن له خبرة بالشريعة لم يعرفه الشيطان أنه تمثل لأصحابه المستغيثين به، وإن كان الشيخ ممن لا خبرة له بأقوالهم نقل أقوالهم له فيظن أولئك أن الشيخ سمع أصواتهم من البعد وأجابهم، وإنما هو بتوسط الشيطان‏.‏

ولقد أخبر بعض الشيوخ الذين كان قد جرى لهم مثل هذا بصورة مكاشفة ومخاطبة، فقال‏:‏ يرونني الجن شيئًا براقًا مثل الماء والزجاج، ويمثلون له فيه مايطلب منه الإخبار به، قال‏:‏ فأخبر الناس به، ويوصلون إلى كلام من استغاث بي من أصحابي فأجيبه فيوصلون جوابي إليه‏.‏

وكان كثيرمن الشيوخ الذين حصل لهم كثير من هذه الخوارق إذا كذب بها من لم يعرفها وقال‏:‏ إنكم تفعلون هذا بطريق الحيلة، كما /يدخل النار بحجر الطلق وقشور النارنج، ودهن الضفادع ، وغير ذلك من الحيل الطبيعية فيعجب هؤلاء المشايخ ويقولون‏:‏ نحن والله لا نعرف شيئًا من هذه الحيل، فلما ذكر لهم الخبير إنكم لصادقون في ذلك، ولكن هذه الأحوال شيطانية أقروا بذلك وتاب منهم من تاب الله عليه لما تبين لهم الحق، وتبين لهم من وجوه أنها من الشيطان، ورأوا أنها من الشياطين لما رأوا أنها تحصل بمثل البدع المذمومة في الشرع وعند المعاصي لله، فلا تحصل عند ما يحبه الله ورسوله من العبادات الشرعية، فعلموا أنها حينئذ من مخارق الشيطان لأوليائه؛ لا من كرامات الرحمن لأوليائه‏.‏

والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب وصلى الله وسلم على محمد سيد رسله وأنبيائه وعلى آله وصحبه وأنصاره وأشياعه وخلفائه صلاة وسلامًا نستوجب بهما شفاعته ‏[‏آمين‏]‏‏.‏

/وقال الشيخ الإمام العالم العلامة، العارف الرباني، المقذوف في قلبه النور القرآني، شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية ـ رضي الله عنه وأرضاه‏:‏

الحمد لله رب العالمين ، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا إله سواه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي اصطفاه واجتباه وهداه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين‏.‏

قاعدة شريفة في المعجزات والكرامات

وإن كان اسم ‏[‏المعجزة‏]‏ يعم كل خارق للعادة في اللغة ، وعرف الأئمة المتقدمين كالإمام أحمد بن حنبل وغيره ـ ويسمونها‏:‏ الآيات ـ لكن كثير من المتأخرين يفرق في اللفظ بينهما، فيجعل ‏[‏المعجزة‏]‏ للنبي، و‏[‏الكرامة‏]‏ للولي، وجماعهما الأمر الخارق للعادة ‏.‏

فنقول‏:‏ صفات الكمال ترجع إلى ‏[‏ثلاثة‏]‏‏:‏ العلم، والقدرة، والغنى، وإن شئت أن تقول‏:‏ العلم، والقدرة‏.‏ والقدرة إما على الفعل وهو التأثير، وإما على الترك وهو الغني، والأول أجود‏.‏ وهذه الثلاثة لا تصلح على وجه الكمال إلا لله وحده، فإنه الذي أحاط بكل شيء علما، وهو على كل شيء قدير، وهو غني عن العالمين‏.‏

وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبرأ من دعوى هذه الثلاثة بقوله‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 50‏]‏، وكذلك قال نوح عليه السلام‏.‏ فهذا أول أولى العزم، وأول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض، وهذا خاتم الرسل وخاتم أولى العزم كلاهما يتبرأ من ذلك‏.‏ وهذا لأنهم يطالبون الرسول صلى الله عليه وسلم تارة بعلم الغيب كقوله‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 48‏]‏، و‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏187‏]‏ وتارة بالتأثير، كقوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلًا‏}‏ /إلى قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 90 - 93‏]‏ وتارة يعيبون عليه الحاجة البشرية، كقوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا‏}‏ ‏[‏ الفرقان‏:‏ 7، 8‏]‏ ‏.‏

فأمره أن يخبر أنه لا يعلم الغيب، ولا يملك خزائن الله، ولا هو ملك غني عن الأكل والمال، إن هو إلا متبع لما أوحى إليه، واتباع ما أوحى إليه هو الدين، وهو طاعة الله، وعبادته علما وعملا بالباطن والظاهر، وإنما ينال من تلك الثلاثة بقدر ما يعطيه الله تعالى فيعلم منه ما علمه إياه، ويقدر منه على ما أقدره الله عليه، ويستغنى عما أغناه الله عنه من الأمور المخالفة للعادة المطردة أو لعادة غالب الناس‏.‏

فما كان من الخوارق من ‏[‏باب العلم‏]‏ فتارة بأن يسمع العبد ما لا يسمعه غيره‏.‏ وتارة بأن يرى ما لا يراه غيره يقظة ومنامًا، وتارة بأن يعلم ما لا يعلم غيره وحيا وإلهامًا، أو إنزال علم ضروري، أو فراسة صادقة، ويسمى كشفًا ومشاهدات، ومكاشفات ومخاطبات‏:‏ فالسماع مخاطبات، والرؤية مشاهدات، والعلم مكاشفة، ويسمى ذلك كله ‏[‏كشفًا‏]‏، و‏[‏مكاشفة‏]‏ أي كشف له عنه‏.‏

/وما كان من ‏[‏باب القدرة‏]‏ فهو التأثير، وقد يكون همة وصدقًا ودعوة مجابة، وقد يكون من فعل الله الذي لا تأثير له فيه بحال، مثل هلاك عدوه بغير أثر منه، كقوله‏:‏ ‏(‏من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة ـ وإني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب‏)‏‏.‏ ومثل تذليل النفوس له ومحبتها إياه ونحو ذلك‏.‏

وكذلك ما كان من ‏[‏باب العلم والكشف‏]‏‏.‏ قد يكشف لغيره من حاله بعض أمور، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في المبشرات‏:‏ ‏(‏هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له‏)‏ ‏(‏وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنتم شهداء الله في الأرض‏)‏‏.‏

وكل واحد ‏[‏من الكشف والتأثير‏]‏ قد يكون قائمًا به، وقد لا يكون قائمًا به، بل يكشف الله حاله ويصنع له من حيث لا يحتسب، كما قال يوسف بن أسباط‏:‏ ما صدق الله عبد إلا صنع له‏.‏ وقال أحمد بن حنبل‏:‏ لو وضع الصدق على جرح لبرأ‏.‏ لكن من قام بغيره له من الكشف والتأثير فهو سببه أيضًا، وإن كان خرق عادة في ذلك الغير، فمعجزات الأنبياء وأعلامهم ودلائل نبوتهم تدخل في ذلك‏.‏

/وقد جمع لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم جميع أنواع ‏[‏المعجزات والخوارق‏]‏‏:‏ أما العلم والأخبار الغيبية والسماع والرؤية فمثل إخبار نبينا صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء المتقدمين وأممهم ومخاطباته لهم وأحواله معهم، وغير الأنبياء من الأولياء وغيرهم بما يوافق ما عند أهل الكتاب الذين ورثوه بالتواتر أو بغيره من غير تعلم له منهم، وكذلك إخباره عن أمور الربوبية والملائكة والجنة والنار بما يوافق الأنبياء قبله من غير تعلم منهم، ويعلم أن ذلك موافق لنقول الأنبياء، تارة بما في أيديهم من الكتب الظاهرة ونحو ذلك من النقل المتواتر، وتارة بما يعلمه الخاصة من علمائهم، وفي مثل هذا قد يستشهد أهل الكتاب وهو من حكمة إبقائهم بالجزية وتفصيل ذلك ليس هذا موضعه‏.‏

فإخباره عن الأمور الغائبة ماضيها وحاضرها هو من ‏[‏باب العلم الخارق‏]‏ وكذلك إخباره عن الأمور المستقبلة مثل مملكة أمته، وزوال مملكة فارس والروم، وقتال الترك، وألوف مؤلفة من الأخبار التي أخبر بها مذكور بعضها في ‏[‏كتب دلائل النبوة‏]‏، و‏[‏سيرة الرسول‏]‏ و‏[‏فضائله‏]‏ و‏[‏كتب التفسير‏]‏، و‏[‏الحديث‏]‏ و‏[‏المغازي‏]‏ مثل دلائل النبوة لأبي نعيم والبيهقي، وسيرة ابن إسحاق، وكتب الأحاديث المسندة كمسند الإمام أحمد، والمدونة كصحيح البخاري، وغير ذلك مما / هو مذكور أيضًا في ‏[‏كتب أهل الكلام والجدل‏]‏‏:‏ كإعلام النبوة للقاضي عبد الجبار وللماوردى، والرد على النصارى للقرطبي، ومصنفات كثيرة جدًا، وكذلك ما أخبر عنه غيره مما وجد في كتب الأنبياء المتقدمين وهي في وقتنا هذا اثنان وعشرون نبوة بأيدي اليهود والنصارى، كالتوراة، والإنجيل، والزبور، وكتاب شعيًا، وحبقوق، ودانيال، وأرميا وكذلك أخبار غير الأنبياء من الأحبار والرهبان وكذلك أخبار الجن والهواتف المطلقة، وأخبار الكهنة كسطيح وشق وغيرهما، وكذلك المنامات وتعبيرها‏:‏ كمنام كسرى وتعبير الموبذان، وكذا أخبار الأنبياء المتقدمين بما مضى وما عبر هو من أعلامهم‏.‏

وأما ‏[‏القدرة والتأثير‏]‏ فإما أن يكون في العالم العلوي أو ما دونه، وما دونه إما بسيط أومركب، والبسيط إما الجو وإما الأرض، والمركب إما حيوان وإما نبات وإما معدن، والحيوان إما ناطق وإما بهيم، فالعلوي كانشقاق القمر، ورد الشمس ليوشع بن نون، وكذلك ردها لما فاتت عليًا الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم نائم في حجره ـ إن صح الحديث ـ فمن الناس من صححه كالطحاوي والقاضي عياض‏.‏ ومنهم من جعله موقوفًا كأبي الفرج ابن الجوزي وهذا أصح‏.‏ وكذلك معراجه إلى السموات‏.‏

/وأما ‏[‏الجو‏]‏ فاستسقاؤه، واستصحاؤه غير مرة‏:‏كحديث الأعرابي الذي في الصحيحين وغيرهما وكذلك كثرة الرمي بالنجوم عند ظهوره، وكذلك إسراؤه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى‏.‏

وأما ‏[‏الأرض والماء‏]‏ فكاهتزاز الجبل تحته وتكثير الماء في عين تبوك وعين الحديبية، ونبع الماء من بين أصابعه غير مرة، ومزادة المرأة‏.‏

وأما ‏[‏المركبات‏]‏ فتكثيره للطعام غير مرة في قصة الخندق من حديث جابر وحديث أبي طلحة، وفي أسفاره، وجراب أبي هريرة، ونخل جابر بن عبد الله، وحديث جابر وابن الزبير في انقلاع النخل له وعوده إلى مكانه، وسقياه لغير واحد من الأرض كعين أبي قتادة‏.‏

وهذا باب واسع لم يكن الغرض هنا ذكر أنواع معجزاته بخصوصه وإنما الغرض التمثيل ‏.‏

وكذلك من باب ‏[‏القدرة‏]‏ عصا موسى صلى الله عليه وسلم وفلق البحر والقمل والضفادع والدم، وناقة صالح، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لعيسى، كما أن من باب العلم إخبارهم بما يأكلون /وما يدخرون في بيوتهم‏.‏

وفي الجملة لم يكن المقصود هنا ذكر المعجزات النبوية بخصوصها، وإنما الغرض التمثيل بها‏.‏

وأما المعجزات التي لغير الأنبياء من ‏[‏باب الكشف والعلم‏]‏ فمثل قول عمر في قصة سارية، و إخبار أبي بكر بأن ببطن زوجته أنثى، وإخبار عمر بمن يخرج من ولده فيكون عادلًا، وقصة صاحب موسى في علمه بحال الغلام‏.‏

و ‏[‏القدرة‏]‏ مثل قصة الذي عنده علم من الكتاب، وقصة أهل الكهف، وقصة مريم، وقصة خالد بن الوليد، و سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي مسلم الخولاني، وأشياء يطول شرحها فإن تعداد هذا مثل المطر، وإنما الغرض التمثيل بالشيء الذي سمعه أكثر الناس‏.‏ وأما القدرة التي لم تتعلق بفعله فمثل نصر الله لمن ينصره وإهلاكه لمن يشتمه‏.‏

/ فصــل

الخارق كشفًا كان أو تأثيرًا إن حصل به فائدة مطلوبة في الدين كان من الأعمال الصالحة المأمور بها دينًا وشرعًا، إما واجب وإما مستحب، وإن حصل به أمر مباح كان من نعم الله الدنيوية التي تقتضي شكرًا، وإن كان على وجه يتضمن ما هو منهي عنه نهى تحريم أو نهى تنزيه كان سببًا للعذاب أو البغض، كقصة الذي أوتي الآيات فانسلخ منها‏:‏ بلعام بن باعوراء، لكن قد يكون صاحبها معذورًا لاجتهاد أو تقليد أو نقص عقل أوعلم أو غلبة حال أو عجز أو ضرورة، فيكون من جنس برح العابد‏.‏

و ‏[‏النهي‏]‏ قد يعود إلى سبب الخارق وقد يعود إلى مقصوده، فالأول مثل أن يدعو الله دعاء منهيًا عنه اعتداء عليه‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 55‏]‏ ومثل الأعمال المنهي عنها إذا أورثت كشفًا أو تأثيرًا‏.‏ والثاني أن يدعو على غيره بما لا يستحقه أو يدعو للظالم بالإعانة، ويعينه بهمته كخفراء العدو وأعوان الظلمة من ذوي الأحوال؛ فإن كان صاحبه من عقلاء المجانين والمغلوبين غلبة /بحيث يعذرون، والناقصين نقصًا لا يلامون عليه كانوا برحية‏.‏ وقد بينت في غير هذا الموضع ما يعذرون فيه وما لا يعذرون فيه‏.‏ وإن كانوا عالمين قادرين كانوا بلعامية، فإن من أتى بخارق على وجه منهي عنه أو لمقصود منهي عنه، فإما أن يكون معذورًا معفوًا عنه كبرح، أو يكون متعمدًا للكذب كبلعام‏.‏

فتلخص أن الخارق ‏[‏ثلاثة أقسام‏]‏‏:‏ محمود في الدين، ومذموم في الدين، ومباح لا محمود ولا مذموم في الدين؛ فإن كان المباح فيه منفعة كان نعمة، وإن لم يكن فيه منفعة كان كسائر المباحات التي لامنفعة فيها كاللعب والعبث‏.‏

قال أبو علي الجوزجاني‏:‏ كن طالبًا للاستقامة لا طالبًا للكرامة‏.‏ فإن نفسك منجبلة على طلب الكرامة، وربك يطلب منك الاستقامة‏.‏ قال الشيخ السهروردي في عوارفه‏:‏ وهذا الذي ذكره أصل عظيم كبير في الباب، وسر غفل عن حقيقته كثير من أهل السلوك والطلاب، وذلك أن المجتهدين والمتعبدين سمعوا عن سلف الصالحين المتقدمين وما منحوا به من الكرامات وخوارق العادات فأبدًا نفوسهم لا تزال تتطلع إلى شيء من ذلك، ويحبون أن يرزقوا شيئًا من ذلك، ولعل أحدهم يبقى منكسر القلب متهمًا لنفسه في صحة عمله حيث لم يكاشف بشيء من ذلك، ولو علموا سر ذلك لهان عليهم الأمر، فيعلم أن الله /يفتح على بعض المجاهدين الصادقين من ذلك بابا، والحكمة فيه أن يزداد بما يرى من خوارق العادات وآثار القدرة تفننا، فيقوى عزمه على هذا الزهد في الدنيا، والخروج من دواعي الهوى، وقد يكون بعض عباده يكاشف بصدق اليقين، ويرفع عن قلبه الحجاب، ومن كوشف بصدق اليقين أغنى بذلك عن رؤية خرق العادات، لأن المراد منها كان حصول اليقين، وقد حصل اليقين، فلو كوشف هذا المرزوق صدق اليقين بشيء من ذلك لازداد يقينًا‏.‏ فلا تقتضي الحكمة كشف القدرة بخوارق العادات لهذا الموضع استغناء به، وتقتضي الحكمة كشف ذلك لآخر لموضع حاجته، وكان هذا الثاني يكون أتم استعدادًا وأهلية من الأول‏.‏ فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة، فهي كل الكرامة‏.‏ ثم إذا وقع في طريقه شيء خارق كان كأن لم يقع فما يبالي ولا ينقص بذلك‏.‏ وإنما ينقص بالإخلال بواجب حق الاستقامة‏.‏

فتعلم هذا، لأنه أصل كبير للطالبين، والعلماء الزاهدين، ومشايخ الصوفية‏.‏

/ فصــل

كلمات الله تعالى ‏[‏نوعان‏]‏‏:‏ كلمات كونية، وكلمات دينية‏.‏ فكلماته الكونية هي‏:‏ التي استعاذ بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏(‏أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر‏)‏ وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏82‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 115‏]‏ والكون كله داخل تحت هذه الكلمات وسائر الخوارق الكشفية التأثيرية‏.‏

و‏[‏النوع الثاني‏]‏ الكلمات الدينية وهي‏:‏ القرآن وشرع الله الذي بعث به رسوله وهي‏:‏ أمره ونهيه وخبره، وحظ العبد منها العلم بها والعمل والأمر بما أمر الله به، كما أن حظ العبد عمومًا وخصوصًا من الأول العلم بالكونيات، والتأثير فيها، أي بموجبها‏.‏

فالأولى قدرية كونية والثانية شرعية دينية، وكشف الأولى العلم بالحوادث الكونية، وكشف الثانية العلم بالمأمورات الشرعية، وقدرة الأولى التأثير في الكونيات، وقدرة الثانية التأثير في الشرعيات، وكما /أن الأولى تنقسم إلى تأثير في نفسه، كمشيه على الماء وطيرانه في الهواء وجلوسه على النار، وإلى تأثير في غيره بإسقام وإصحاح، وإهلاك وإغناء وإفقار، فكذلك الثانية تنقسم إلى تأثير في نفسه بطاعته لله ورسوله، والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله باطنًا وظاهرًا، وإلى تأثير في غيره بأن يأمر بطاعة الله ورسوله؛ فيطاع في ذلك طاعة شرعية، بحيث تقبل النفوس ما يأمرها به من طاعة الله ورسوله في الكلمات الدينيات‏.‏ كما قبلت من الأول ما أراد تكوينه فيها بالكلمات الكونيات‏.‏

وإذا تقرر ذلك فاعلم أن عدم الخوارق علمًا وقدرة لا تضر المسلم في دينه، فمن لم ينكشف له شيء من المغيبات، ولم يسخر له شيء من الكونيات، لا ينقصه ذلك في مرتبته عند الله، بل قد يكون عدم ذلك أنفع له في دينه إذا لم يكن وجود ذلك في حقه مأمورًا به أمر إيجاب ولا استحباب، وأما عدم الدين والعمل به فيصير الإنسان ناقصًا مذمومًا إما أن يجعله مستحقًا للعقاب، وإما أن يجعله محرومًا من الثواب، وذلك لأن العلم بالدين وتعليمه والأمر به ينال به العبد رضوان الله وحده وصلاته وثوابه، وإما العلم بالكون والتأثير فيه فلا ينال به ذلك إلا إذا كان داخلًا في الدين، بل قد يجب عليه شكره، وقد يناله به إثم‏.‏

إذا عرف هذا فالأقسام ثلاثة‏:‏ إما أن يتعلق بالعلم والقدرة أو بالدين /فقط، أو بالكون فقط‏.‏

فالأول‏:‏ كما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 80‏]‏ فإن السلطان النصير يجمع الحجة والمنزلة عند الله، وهو كلماته الدينية، والقدرية، والكونية عند الله بكلماته الكونيات، ومعجزات الأنبياء عليهم السلام تجمع الأمرين، فإنها حجة على النبوة من الله وهي قدرية‏.‏ وأبلغ ذلك القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه هو شرع الله وكلماته الدينيات، وهو حجة محمد صلى الله عليه وسلم على نبوته، ومجيئه من الخوارق للعادات، فهو الدعوة وهو الحجة والمعجزة‏.‏

وأما القسم الثاني‏:‏ فمثل من يعلم بما جاء به الرسول خبرًا وأمرًا ويعمل به ويأمر به الناس، ويعلم بوقت نزول المطر وتغير السعر، وشفاء المريض، وقدوم الغائب، ولقاء العدو، وله تأثير إما في الأناسي، وإما في غيرهم بإصحاح وإسقام وإهلاك، أو ولادة أو ولاية أو عزل‏.‏ وجماع التأثير إما جلب منفعة كالمال والرياسة؛ وإما دفع مضرة كالعدو والمرض، أو لا واحد منهما مثل ركوب أسد بلا فائدة، أو إطفاء نار ونحو ذلك‏.‏

وأما الثالث‏:‏ فمن يجتمع له الأمران؛ بأن يؤتي من الكشف /والتأثير الكوني ما يؤيد به الكشف والتأثير الشرعي، وهو علم الدين والعمل به، والأمر به، ويؤتي من علم الدين والعمل به، ما يستعمل به الكشف والتأثير الكوني، بحيث تقع الخوارق الكونية تابعة للأوامر الدينية، أو أن تخرق له العادة في الأمور الدينية، بحيث ينال من العلوم الدينية، ومن العمل بها، ومن الأمر بها، ومن طاعة الخلق فيها، ما لم ينله غيره في مطرد العادة، فهذه أعظم الكرامات والمعجزات وهو حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق وعمر وكل المسلمين‏.‏

فهذا القسم الثالث هو مقتضى ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏5‏]‏ إذ الأول هو العبادة، والثاني هو الاستعانة، وهو حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والخواص من أمته المتمسكين بشرعته ومنهاجه باطنًا وظاهرًا، فإن كراماتهم كمعجزاته لم يخرجها إلا لحُجّة أو حاجة، فالحجة ليظهر بها دين الله ليؤمن الكافر ويخلص المنافق ويزداد الذين آمنوا إيمانًا، فكانت فائدتها اتباع دين الله علمًا وعملًا، كالمقصود بالجهاد، والحاجة كجلب منفعة يحتاجون إليها كالطعام والشراب وقت الحاجة إليه، أو دفع مضرة عنهم ككسر العدو بالحصى الذي رماهم به فقيل له‏:‏ ‏{‏وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 17‏]‏، وكل من هذين يعود إلى منفعة الدين كالأكل والشرب وقتال العدو والصدقة على /المسلمين، فإن هذا من جملة الدين والأعمال الصالحة‏.‏

وأما القسم الأول‏:‏ وهو المتعلق بالدين فقط فيكون منه ما لا يحتاج إلى الثاني ولا له فيه منفعة، كحال كثير من الصحابة، والتابعين وصالحي المسلمين، وعلمائهم وعبادهم، مع أنه لابد أن يكون لهم حاجة أو انتفاعًا بشيء من الخوارق، وقد يكون منهم من لا يستعمل أسباب الكونيات ولا عمل بها، فانتفاء الخارق الكوني في حقه إما لانتفاء سببه وإما لانتفاء فائدته، وانتفاؤه لانتفاء فائدته لا يكون نقصًا، وأما انتفاؤه لانتفاء سببه فقد يكون نقصًا وقد لا يكون نقصًا، فإن كان لإخلاله بفعل واجب وترك محرم كان عدم الخارق نقصا وهو سبب الضرر، وإن كان لإخلاله بالمستحبات فهو نقص عن رتبة المقربين السابقين وليس هو نقصًا عن رتبة أصحاب اليمين المقتصدين، وإن لم يكن كذلك بل لعدم اشتغاله بسبب بالكونيات التي لا يكون عدمها ناقصًا لثواب لم يكن ذلك نقصًا، مثل من يمرض ولده ويذهب ماله فلا يدعو ليعافي أو يجىء ماله، أو يظلمه ظالم فلا يتوجه عليه لينتصر عليه‏.‏

وأما القسم الثاني‏:‏ و هو صاحب الكشف والتأثير الكوني فقد تقدم أنه تارة يكون زيادة في دينه، وتارة يكون نقصًا، وتارة لا له ولا عليه وهذا غالب حال أهل الاستعانة، كما أن الأول غالب حال أهل العبادة، /وهذا الثاني بمنزلة الملك والسلطان الذي قد يكون صاحبه خليفة نبيًا، فيكون خير أهل الأرض، وقد يكون ظالمًا من شر الناس، وقد يكون ملكًا عادلًا فيكون من أوساط الناس، فإن العلم بالكونيات والقدرة على التأثير فيها بالحال والقلب كالعلم بأحوالها والتأثير فيها بالملك وأسبابه، فسلطان الحال والقلب كسلطان الملك واليد، إلا أن أسباب هذا باطنة روحانية، وأسباب هذا ظاهرة جسمانية‏.‏ وبهذا تبين لك أن القسم الأول إذا صح فهو أفضل من هذا القسم، وخير عند الله وعند رسوله وعباده الصالحين المؤمنين العقلاء‏.‏

وذلك من وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أن علم الدين طلبًا وخبرًا لا ينال إلا من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما العلم بالكونيات فأسبابه متعددة، وما اختص به الرسل وورثتهم أفضل مما شركهم فيه بقية الناس، فلا ينال علمه إلا هم وأتباعهم، ولا يعلمه إلا هم وأتباعهم‏.‏

الثاني‏:‏ أن الدين لا يعمل به إلا المؤمنون الصالحون الذين هم أهل الجنة وأحباب الله، وصفوته وأحباؤه وأولياؤه، ولا يأمر به إلا هم‏.‏

/وأما التأثير الكوني‏:‏ فقد يقع من كافر ومنافق وفاجر تأثيره في نفسه وفي غيره، كالأحوال الفاسدة والعين والسحر، وكالملوك والجبابرة المسلطين والسلاطين الجبابرة، وما كان من العلم مختصًا بالصالحين أفضل مما يشترك فيه المصلحون والمفسدون‏.‏

الثالث‏:‏ أن العلم بالدين والعمل به ينفع صاحبه في الآخرة ولا يضره‏.‏ وأما الكشف والتأثير فقد لا ينفع في الآخرة بل قد يضره كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏103‏]‏‏.‏

الرابع‏:‏ أن الكشف والتأثير إما أن يكون فيه فائدة أو لا يكون، فإن لم يكن فيه فائدة؛ كالاطلاع على سيئات العباد وركوب السباع لغير حاجة، والاجتماع بالجن لغير فائدة، والمشي على الماء مع إمكان العبور على الجسر، فهذا لا منفعة فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهو بمنزلة العبث واللعب وإنما يستعظم هذا من لم ينله‏.‏ وهو تحت القدرة والسلطان في الكون، مثل من يستعظم الملك أو طاعة الملوك لشخص وقيام الحالة عند الناس بلا فائدة، فهو يستعظمه من جهة سببه لا من جهة منفعته كالمال والرياسة، ودفع مضرة كالعدو والمرض، فهذه المنفعة تنال غالبا بغير الخوارق أكثر مما تنال بالخوارق، ولا يحصل بالخوارق منها إلا القليل، ولا تدوم إلا بأسباب أخرى، /وأما الآخر أيضًا فلا يحصل بالخوارق إلا مع الدين‏.‏ والدين وحده موجب للآخرة بلا خارق، بل الخوارق الدينية الكونية أبلغ من تحصيل الآخرة كحال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وكذلك المال والرياسة التي تحصل لأهل الدين بالخوارق إنما هو مع الدين‏.‏ وإلا فالخوارق وحدها لا تؤثر في الدنيا إلا أثرًا ضعيفًا‏.‏

فإن قيل‏:‏ مجرد الخوارق إن لم تحصل بنفسها منفعة لا في الدين ولا في الدنيا فهي علامة طاعة النفوس له، فهو موجب الرياسة والسلطان، ثم يتوسط ذلك فتجتلب المنافع الدينية والدنيوية، وتدفع المضار الدينية والدنيوية‏.‏

قلت‏:‏ نحن لم نتكلم إلا في منفعة الدين أو الخارق في نفسه من غير فعل الناس، وأما إن تكلمنا فيما يحصل بسببها من فعل الناس فنقول أولا‏:‏ الدين الصحيح أوجب لطاعة النفوس وحصول الرياسة من الخارق المجرد كما هو الواقع، فإنه لا نسبة لطاعة من أطيع لدينه إلى طاعة من أطيع لتأثيره، إذ طاعة الأول أعم وأكثر، والمطيع بها خيار بني آدم عقلا ودينًا،وأما الثانية فلا تدوم ولا تكثر ولا يدخل فيها إلا جهال الناس، كأصحاب مسيلمة الكذاب وطليحة الأسدي ونحوهم وأهل البوادي والجبال ونحوهم ممن لا عقل له ولا دين‏.‏

/ثم نقول ثانيا‏:‏ لو كان الخارق يناله من الرياسة والمال أكثر من صاحب الدين لكان غايته أن يكون ملكًا من الملوك، بل ملكه إن لم يقرنه بالدين فهو كفرعون وكمقدمي الإسماعيلية ونحوهم، وقد قدمنا أن رياسة الدنيا التي ينالها الملوك بسياستهم و شجاعتهم وإعطائهم أعظم من الرياسة بالخارق المجرد، فإن هذه أكثر ما يكون مدة قريبة‏.‏

الخامس‏:‏ أن الدين ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة ويدفع عنه مضرة الدنيا والآخرة من غير أن يحتاج معه إلى كشف أو تأثير‏.‏

وأما الكشف أو التأثير فإن لم يقترن به الدين وإلا هلك صاحبه في الدنيا والآخرة، أما في الآخرة فلعدم الدين الذي هو أداء الواجبات وترك المحرمات،وأما في الدنيا فإن الخوارق هي من الأمور الخطرة التي لا تنالها النفوس إلا بمخاطرات في القلب والجسم والأهل والمال، فإنه إن سلك طريق الجوع والرياضة المفرطة خاطر بقلبه ومزاجه ودينه، وربما زال عقله ومرض جسمه وذهب دينه، وإن سلك طريق الوله والاختلاط بترك الشهوات ليتصل بالأرواح الجنية وتغيب النفوس عن أجسامها ـ كما يفعله مولهو الأحمدية ـ فقد أزال عقله وأذهب ماله ومعيشته، وأشقى نفسه شقاء لا مزيد عليه، وعرض نفسه لعذاب الله في الآخرة لما تركه من الواجبات وما فعله من المحرمات، وكذلك إن قصد تسخير الجن بالأسماء والكلمات من الأقسام والعزائم فقد عرض نفسه لعقوبتهم /ومحاربتهم، بل لو لم يكن الخارق إلا دلالة صاحب المال المسروق والضال على ماله أو شفاء المريض أو دفع العدو من السلطان والمحاربين ـ فهذا القدر إذا فعله الإنسان مع الناس ولم يكن عمله دينًا يتقرب به إلى الله كان كأنه قهرمان للناس يحفظ أموالهم، أو طبيب أو صيدلي يعالج أمراضهم، أو أعوان سلطان يقاتلون عنه، إذ عمله من جنس عمل أولئك سواء‏.‏

ومعلوم أن من سلك هذا المسلك على غير الوجه الديني فإنه يحابي بذلك أقوامًا ولا يعدل بينهم، وربما أعان الظلمة بذلك كفعل بلعام وطوائف من هذه الأمة وغيرهم‏.‏وهذا يوجب له عداوة الناس التي هي من أكثر أسباب مضرة الدنيا ولا يجوز أن يحتمل المرء ذلك إلا إذا أمر الله به ورسوله؛ لأن ما أمر الله به ورسوله وإن كان فيه مضرة فمنفعته غالبة على مضرته والعاقبة للتقوى‏.‏

السادس‏:‏ أن للدين علما وعملا إذا صح فلا بد أن يوجب خرق العادة إذا احتاج إلى ذلك صاحبه،قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ‏}‏‏[‏الطلاق‏:‏2، 3‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 29‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏66-68‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ‏}‏ ‏[‏يونس ‏:‏62‏:‏ 64‏]‏‏.‏

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله‏)‏ ثم قرأ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر ‏:‏75‏]‏ رواه الترمذي وحسنه من رواية أبي سعيد‏.‏

وقال الله تعالى فيما روى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألنى لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه‏)‏ فهذا فيه محاربة الله لمن حارب وليه، وفيه أن محبوبه به يعلم سمعًا وبصرًا، وبه يعمل بطشًا وسعيًا، وفيه أنه يجيبه إلى ما يطلبه منه من المنافع، ويصرف عنه ما يستعيذ به من المضار، وهذا باب واسع‏.‏

وأما الخوارق فقد تكون، مع الدين، وقد تكون مع عدمه أو فساده أو نقصه‏.‏

/السابع‏:‏ أن الدين هو إقامة حق العبودية وهو فعل ما عليك وما أمرت به، وأما الخوارق فهي من حق الربوبية إذا لم يؤمر العبد بها، وإن كانت بسعى من العبد فإن الله هو الذي يخلقها بما ينصبه من الأسباب، والعبد ينبغي له أن يهتم بما عليه وما أمر به، وأما اهتمامه بما يفعله الله إذا لم يؤمر بالاهتمام به فهو إما فضول فتكون لما فيها من المنافع كالمنافع السلطانية المالية التي يستعان بها على الدين، كتكثير الطعام والشراب وطاعة الناس إذا رأوها، ولما فيها من دفع المضار عن الدين بمنزلة الجهاد الذي فيه دفع العدو وغلبته‏.‏

ثم هل الدين محتاج إليها في الأصل، ولأن الإيمان بالنبوة لا يتم إلا بالخارق أو ليس بمحتاج في الخاصة بل في حق العامة‏.‏ هذا نتكلم عليه‏.‏

وأنفع الخوارق الخارق الديني وهو حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما من نبي إلا وقد أعطى من الآيات ما آمن على مثله البشر ،وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلى، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة‏"‏ أخرجاه في الصحيحين‏.‏ وكانت آيته هي دعوته وحجته بخلاف غيره من الأنبياء،ولهذا نجد كثيرًا من المنحرفين منا إلى العيسوية يفرون من القرآن، والقال إلى الحال، كما أن المنحرفين منا إلى الموسوية يفرون من الإيمان والحال إلى/ القال، ونبينا صلى الله عليه وسلم صاحب القال والحال، وصاحب القرآن والإيمان‏.‏

ثم بعده الخارق المؤيد للدين المعين له، لأن الخارق في مرتبة ‏{‏وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏، والدين في مرتبة ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏، فأما الخارق الذي لم يعن الدين فإما متاع دنيا، أو مبعد صاحبه عن الله تعالى‏.‏

فظهر بذلك أن الخوارق النافعة تابعة للدين حادثة له، كما أن الرياسة النافعة هي التابعة للدين، وكذلك المال النافع، كما كان السلطان والمال بيد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فمن جعلها هي المقصودة وجعل الدين تابعًا لها ووسيلة إليها لا لأجل الدين في الأصل فهو يشبه بمن يأكل الدنيا بالدين، وليست حاله كحال من تدين خوف العذاب أو رجاء الجنة فإن ذلك مأمور به،وهو على سبيل نجاة وشريعة صحيحة‏.‏

والعجب أن كثيرًا ممن يزعم أن همه قد ارتفع وارتقى عن أن يكون دينه خوفًا من النار أو طلبًا للجنة، يجعل همه بدينه أدنى خارق من خوارق الدنيا، ولعله يجتهد اجتهادًا عظيمًا في مثله وهذا خطأ، ولكن منهم من يكون قصده بهذا تثبيت قلبه وطمأنينته وإيقانه بصحة طريقه وسلوكه، فهو يطلب الآية علامة وبرهانًا على صحة دينه، كما /تطلب الأمم من الأنبياء الآيات دلالة على صدقهم، فهذا أعذر لهم في ذلك‏.‏

ولهذا لما كان الصحابة رضي الله عنهم مستغنين في علمهم بدينهم وعملهم به عن الآيات بما رأوه من حال الرسول ونالوه من علم، صار كل من كان عنهم أبعد مع صحة طريقته يحتاج إلى ما عندهم في علم دينه وعمله‏.‏

فيظهر مع الأفراد في أوقات الفترات وأماكن الفترات من الخوارق مالا يظهر لهم ولا لغيرهم من حال ظهور النبوة والدعوة‏.‏